الجنرال المتقاعد لبات ولد المعيوف "صورة صادمة من الأربعينيات جسدها مشهد وصول ولد الغزواني لمدينة وادان
إن صورة وصول الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني إلى وَدّان صورة صادمة بكل ما تحمله الكلمة من معنى. فبالنسبة لمن لم يعش تلك اللحظة، تبدو وكأنها مشهد مقتطع من أواخر أربعينيات القرن الماضي، أو ربما من بدايات الخمسينيات. طائرة من طراز «دي سي–3»، أرض قاحلة، لا مطار حقيقي، لا إشارات، ولا مدرج مُعبَّد. لا شيء، على الإطلاق، يوحي بأننا في القرن الحادي والعشرين، ولا شيء يدل على وجود دولة حديثة، منظمة، واعية بصورتها وبمسؤوليتها تجاه شعبها.
هذه الصورة ليست تفصيلاً عابراً، ولا حادثاً لوجستياً يمكن تجاوزه أو تبريره. إنها رمز قاسٍ، بل فاضح، لحقيقة الدولة كما هي، لا كما يُراد لها أن تُقدَّم في الخطب الرسمية والأرقام المُنمَّقة. إنها تكشف، بلا مواربة، عن عجز الدولة عن توفير أبسط البنى التحتية، حتى في مدينة ذات قيمة تاريخية وحضارية معترف بها عالمياً.
هذه الصورة المؤلمة تعتصر القلب، لا بدافع الحنين، بل بدافع الخجل. إنها تُجسِّد ضياع شعبٍ بأكمله، وصمته المثقل بالخذلان. تُجسِّد الإهمال، والتهميش، والنسيان. وهي، قبل كل شيء، تعبير صريح عن العجز المزمن للدولة عن أداء وظائفها الأساسية، وعن التخطيط، وعن الاستثمار الرشيد، وعن استشراف المستقبل.
كما تكشف، وبصورة لا تقبل الجدل، حقيقة أكثر إيلاماً: أن قادة البلاد لا يولون أدنى اهتمام لمصير الوطن ولا لمعاناة المواطنين. فلم تكن أولويتهم يوماً تحسين مستوى العيش، ولا تطوير البنى التحتية، ولا تحقيق العدالة المجالية بين الأقاليم، بل انصرفت اهتماماتهم، على الدوام، إلى حماية مصالحهم الضيقة، وتحويل الموارد العامة إلى غنائم خاصة، والتعامل مع السلطة بوصفها ملكية شخصية لا مسؤولية وطنية.
فكيف يمكن، والحال هذه، تفسير هذا الوضع؟ كيف يمكن تبرير عجز الدولة عن إنجاز مدرج مُعبَّد في وَدّان، وهو مشروع بسيط في كلفته، عظيم في دلالته، وضروري في رمزيته؟ مدرج لا يقتصر دوره على استقبال الطائرات في ظروف لائقة، بل يمنح أيضاً صورة دولة تحترم تاريخها، وأرضها، ومواطنيها.
إن المليارات، بل مئات المليارات، التي جرى تبديدها، كفيلة وحدها بتقديم الجواب. تقارير محكمة الحسابات الصادمة، والفضائح المتلاحقة التي طالت أجهزة الشرطة، وتجهيزات الجيش الصحية، وغيرها من الملفات التي لم يُكشف عن مصيرها، ترسم لوحة قاتمة لكنها متماسكة: لوحة هدرٍ شامل، تحوّل من انحراف إلى قاعدة، ومن استثناء إلى أسلوب حكم.
وفي الوقت الذي تتبدّد فيه الأموال العامة في دهاليز الفساد والمحسوبية، يبقى الوطن جامداً، وتذبل المدن التاريخية، وتتآكل البنى التحتية، بينما تختار الدولة أن تُشيح بوجهها.
وَدّان ليست حالة معزولة، بل مرآة صادقة لإخفاق وطني شامل. إخفاق نموذج حكم قائم على الارتجال، واحتقار الأطراف، وغياب أي رؤية استراتيجية حقيقية. إن غياب هذا المدرج ليس مشكلة تقنية فحسب، بل هو استعارة مكثفة لدولة بلا مسار واضح، وبلا مشروع جامع، وبلا إرادة صادقة للتقدم.
هذه الصورة، على قسوتها، تمتلك فضيلة واحدة لا يمكن إنكارها: إنها لا تكذب. إنها تكشف، ببلاغة جارحة، ما عجزت عقود من الخطابات عن إخفائه. تُظهر دولة تتراجع بينما يتقدم العالم، وسلطة تستهلك ولا تبني، تُنفق ولا تستثمر، وتحكم دون أن تخدم.
وما لم تُواجَه هذه الحقيقة بشجاعة ونزاهة، ستظل صور أخرى، لا تقل إيلاماً، تطارد الذاكرة الجماعية، شاهدة على موعد ضائع مع الوقت.


